الذات الوطنية في قصيدة “سورة اليمن” للشاعر أحمد غيلان

الذات الوطنية في قصيدة “سورة اليمن” للشاعر أحمد غيلان
ثابت الأحمدي

ثمة قصائد، أو قل: ملاحم شعرية تبدو وكأنها تنزلت من السماء، ولم تصغ بأقلام ناظميها. والحقيقة لا غرابة؛ فالشعرُ من الشعور، عصارةُ فكرٍ وخلاصةُ روحٍ اعتصره مبدعه، وقد تماهى في عوالمه الخاصة، كما يتماهي في ذاته راهبُ الصّومعة أو عازف الكمان..!
من مجموعةِ قصائد شعرية قليلة صنع لنا الزبيريُّ روحًا ثورية، وأبدع “الفضولُ” وجدانا وطنيا، ردد هذه القصائد والأغاني الجنديُّ في الثكنة، والراعي في السهل، والفلاح في الحقل، والطالب في المدرسة، ولا تزال إلى اليوم تحتلُّ زخمَ المكان والزمان، وستظل كذلك لألف عام قادمة، وأكثر إيقاعاتِ قلب وترانيمَ فؤاد، على شفاه كل ثائر، وفي أحاسيس كل عاشق.

الأعمالُ الكبيرة تتخلد أكثر مع مرور الزمان عليها، فيزيدها تقادمُ الأيّام تجدُّدًا ورسُوخًا؛ كما تزيدُها الأحداثُ انبعاثًا وتألقًا؛ لهذا تخلدت الملاحمُ الشعرية كالإلياذة والأوديسا الإغريقية والمهابهارتا الهندية والشهنامة الفارسية وقوسار الصينية وميم وزين الكردية، لا لبراعتها الفنية فحسب؛ فثمة أعمال فنية أخرى على قدر أكبر من الإبداع والدهشة؛ ولكن لأنها صيغت من وجدان الوعي الجمعي لهذه الشعوب، ومثلت روحها القومية، وفيها وجدت الأجيالُ المتعاقبة ذاتها وكينونتها.

لعلها “سلطة النص” أو “سلطة المعرفة” إذا ما استعرنا مصطلح ميشيل فوكو الذي يربط بين المعرفة والسلطة، وسلطة النص هنا فاعلة متجددة.
ولو لم تكن هذه النصوصُ ذات سلطة فنية وأدبية كامنة في ذاتها لما كتب لها هذا الخلود كله عبر هذا الزمن الطويل، في الوقت الذي ماتت فيه بين أيدينا اليوم نصوصٌ أخرى قبل أن يجفّ حبرُ كلماتها.

استاطيقا الفكرة

إنها شكلٌ كليٌّ من أشكال العقل الجمعي؛ لأن الفنَّ ــ كما يرى هيجل ــ موصلٌ للحقيقة كما هي، عبر التفاعل بين الذات والموضوع؛ فالجمال ــ من وجهة نظره ــ نمطٌ معين لتمثيل الحقيقة وإظهارها في طابع حسي. ولعل أصدق مثال على هذا سيمفونية “بيتهوفن” الخامسة التي عَبّرت عن الفكرة البعيدة “القدر” بالفن. وفيها اجتمع “قلب” الشرق و “عقل” الغرب في أبدع تعبير فني خالد.

سورة اليمن.. الانطلاق من الذات

ليست هذه أول قصيدة بهذا الزخم للشاعر أحمد غيلان بطبيعة الحال، فتاريخُه الفنيُّ مكتنزٌ برصيدٍ أدبي متميز منذ سنوات طويلة، وإن كانت الصحافة قد نحتت منه وأثرت عليه، كما هو الشأن مع كثير من الأدباء والشعراء اليمنيين الذين “تصَحّفُوا” عن هوايةٍ أو عن اضطرار، عبدالله حُمران سابقا، أو عادل الأحمدي حاليًا أنموذجًا؛ لكن هذه أولُ ملحمة وطنية رائدة بحق للشاعر، علا صوتُها أكبر من صوت هدير المدافع أو لعلعات البنادق، بدخانها الأسود الذي يخيم على البلاد منذ سنوات، ومع هذا كانت القصيدة/ الملحمة أندى صوتا وأصدح بيانا يفصح عن واقع الحال والمآل. إنها “ثيمياء النص” ــ ومستندها الذوق والكشف وفقا للتعبير الخلدوني ــ الذي يستمد كينونته من قوة فكرته وجمال بنائه. الفكرة بما هي روح جمعية للأمة، انطلق منها الأديب بلسانها، والقالب الفني والأدبي بما هو أداة معبرة، أو وعاءٌ كما يقرر ذلك الجاحظ. “الألفاظ أوعية المعاني”.

“سورة اليمن” الروح الجمعيّة للأمة اليمنية، والتي تعتبر امتدادًا أصيلا لدامغة الهمداني في القرن الرابع الهجري، وملحمة “المجد والألم” للمؤرخ والأديب والسياسي مطهر الإرياني، في القرن الميلادي العشرين، وفيما بينهما، وبعدهما أيضًا عشراتُ الملاحم الأخرى التي لا تقل عنهما إبداعا. “أحزان وإصرار” للبردوني أنموذجا.

وعلى ذكر هذه الأخيرة فهي القصيدة/ المجرة التي لا تستطيع عيناك الباصرتان الإلمام بحشودها الفلسفية المهولة، ودومًا ما أقرنها بقصيدة أخرى للمعري، شاعر الفلاسفة: “غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي”.
وعودًا إلى الهمداني والإرياني، وكلاهما شاعران، وكلاهما مؤرخان، وكلاهما سياسيان، وكلاهما أيضًا جمعتْهما قضية واحدة من مصدر واحد، وهو “الكيان الإمامي البغيض”، سابقًا ولاحقًا. برز الأول في مطلع القرن الرابع الهجري منافحًا عن أمجاد آبائه وأجداده، وهو يرى الديالمة والطبريين مع بقايا الأبناء يعبثون بحضارة شعب وتاريخ أمة، وتبدى الأخير أيضًا بذات الشاكلة، ولا يزال الحال من بعضه، ومن نفس الكيان أيضا.

ذاتُ الحال أيضا مع الأديب والسياسي أحمد غيلان، مُصلتا سيفَ الشعر، في أم المعركة التي لا يزال غبارها متطايرا من تلك اللحظات وحتى اليوم.
نظَمَ الهمداني دامغته من بحر “الوافر” وطبيعة الوافر الخفة والنشاط، وهو بحر كل الدوامغ والملاحم تقريبا، ابتداء من عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة: “ألا هبي بصحنك فاصبحينا” وانتهاء بملحمة مطهر الإرياني: “أيا وطني جعلت هواك دينا   وعشت على شعائره أمينا”. فيما جاءت رائعةُ الشاعر أحمد غيلان من بحر “الخفيف” أخف السباعيّات، والذي يمكن وصفه بالطروب والرشاقة والخفة، وهو الأقرب إلى “الوافر” وأيضا الهزج والرجز. وهو ما تناسب مع الموضوع/ الفكرة التي تستدعي الكر والفر، الخفة والنشاط..
ينطلق الهمداني في دامغته من ذاتيته الحضاريّة، مذكرا القوم المتطاولين بقوله:
ونَحْنُ النَّاحِتُوْنَ الصَّخْرَ قِدْمًا
مَسَاكِنَ فُسْحَةٍ، والشَّائِدُونَا
كَغُمْدَانَ المُنِيْفِ وقَصْرِ هَكْرٍ
وبَيْنُونَ المُنِيْفَةِ مُحْكِمِيْنَا
وصِرْواحٌ، ومَأْرِبُ نَحْنُ شِدْنَا
عَلَيْهَا بِالرُّخَامِ مُعَمِّدِيْنَا
وينطلقُ الإرياني في ملحمته من ذات الفكرة، مذكرًا القوم أيضا بقوله:
ﺩﻉ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻳﺮﻭﻱ ﺫﻛﺮﻳﺎﺕٍ
ﻭﻳﺮﺟﻊ ﻋﺒﺮ ﺁﻻﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻨﺎ
ﺇﻟﻰ ﻓﺠﺮ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﺣﻴﻦ ﻫﺒﺖ
ﻧﺴﺎﺋﻤﻪ ﻭﺩﺍﻋﺒﺖ ﺍﻟﺠﻔﻮﻧﺎ
ﻭﺃﻳﻘﻈﺖ ﺍﻟﻄﻼﺋﻊ ﻓﺎﺳﺘﻔﺎﻗﻮﺍ
ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻗﺼﺔ ﺍﻟﻤﺘﻤﺪنينا
وهو نفس المنطلق القومي لدى الشاعر أحمد غيلان، حين يقول:
إنَّنَا هَا هُنا وُجُوْدٌ وَجُودٌ
بَلْ خُلودٌ يُنادِدُ الأزمَانا
إنَّنَا مُسْنَدٌ ونَقْشٌ وعَرْشٌ
إنَّنَا سُورةٌ تَقُصُّ البَيَانا
وفي الوقت الذي ينكرُ الهمداني على الأدعياء زيف ادعائهم، مقررًا أن الإنسان بما يكسب ويحقق، لا بوهم الانتساب، قائلا:
ومَا افْتَخَرَ الأَنَامُ بِغَيْرِ مُلْكٍ
قَدِيْم،ٍ أَوْ بِدِيْنٍ مُسْلِمِيْنَا
ومَا بِسِوَاهُمَا فَخْرٌ، وإِنَّا
لِذَلِكَ، دُونَ كُلٍّ، جَامِعُونَا
يتبنى الإرياني نفس الفكرة في ملحمته بقوله:
ﻭﻣﺎ ﺑﻤﺰﻳﻒ ﺍﻷﻧﺴﺎﺏ ﺗﻌﻠﻮ
ﻣﻘﺎﺩﻳﺮ ﺍﻟﻄﻐﺎﺓ ﺍﻟﺴﺎﻓﻠﻴﻨﺎ
ﻭﺇﻥ ﺻﺢ ﺍﻧﺘﺴﺎﺑﻬﻢ ﺇﻟﻴﻬﺎ
ﺑﻮﺟﻪﹴ ﻣﺎ ﻓﻤﺎﺫﺍ ﻳﺤﺴﺒﻮﻧﺎ؟
ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻷﻧﺴﺎﺏ ﺷﻴﺌﺎ
ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺳﻮﻯ ﻣﺎ ﻳﻌﻤﻠﻮﻧﺎ
وفي تناصٍ متوالٍ يفتتح الأديب “غيلان” رائعته بالقول، مخاطبا إياهم:
فلْتَكُوْنُوْا ملائكًا أو جَانا
وليكُنْ جَدُّ رَبِّكُمْ من كانا
حتى القول:
فلْتَكُوْنُوْا ما شِئْتُمُ من مُسُوْحٍ
أو مُسُوخاً تُؤلِّهُ الشيطانا
فلْتَكُوْنُوْا أحْفادَ أيِّ نَبِيٍّ
أيُّ دِيْنٍ -لَكُمْ- يُبِيْحُ دِمَانا
فَلْيَكُنْ أَصْلُ أَصْلِكُمْ هَاشِميًّا
ولْيَكُنْ جِذْرُ جِذْرُكُمْ عَدْنَانا
وهكذا تتلاقح ذات الأفكار، وتتواصل عملية بنائها.
في الحقيقة إنّ رائعة “غيلان” لا تقدمُ لنا مادة أدبية شعريّة فحسب؛ كما هي عادة كثير من القصائد لكثير من الشعراء؛ إنما مادة استثنائية، تستنهض روحَ أمة ووجدانَ شعب. مكانها الصدور لا السطور. كجملة الأعمال الأدبية الحيّة قبلها، راشَ حروفها أسنة حدادًا بأصدقِ شعور، وألهبِ حماس، وهنا سر جمالها المتبرج، معنى ومبنى.

في هذه الرائعة يتبدى الشاعر مؤرخًا، مستنطقا أمجاد ماضيه؛ كما يتبدى أيضا مفكرا، داحضًا خرافات الزيف والكهنوت التي باضت وفرخت على حين غفلة من الجميع، مقارعًا إياهم بالحجة والمنطق والبيان؛ مهاجمًا ومدافعًا في آنٍ واحد.
وإنها لمن غرر القصائد النضالية التي يجب أن تكون ضمن مناهج التعليم العام في مادة الوطنية؛ ترياقا لأجيالنا الصّاعدة من سموم ثقافة الكهنوت البغيض.
التحية والتقدير للأديب والسياسي المتألق أحمد غيلان، كقلم نضالي محارب على جبهة الثقافة والوعي، وثائر في معركة الكرامة والجمهورية وسبتمبر المعظم. ونترك القارئ مع القصيدة/ الملحمة.
سورة اليمن
فلْتَكُوْنُوْا ملائكًا أو جَانا
وليكُنْ جَدُّ رَبِّكُمْ من كانا
فلْتَكُوْنُوْا ما شِئْتُمُ من مُسُوْحٍ
أو مُسُوخاً تُؤلِّهُ الشيطانا
فلْتَكُوْنُوْا أحْفادَ أيِّ نَبِيٍّ
أيُّ دِيْنٍ -لَكُمْ- يُبِيْحُ دِمَانا
فَلْيَكُنْ أَصْلُ أَصْلِكُمْ هَاشِميًّا
ولْيَكُنْ جِذْرُ جِذْرُكُمْ عَدْنَانا
فلْتَكُوْنُوْا فَسِيْلةً من عَلِيٍّ
ولْتكُن أمُّ جَدِّكم شَهْرَبَانا
لا “يزيدُ” ابْنُ عَمِّنا، لا حُسينًا
ثأرُهُـ عِندَنا ولا عَادَانا
إنْ تَكُوْنُوْا ضَلالَةً أو هُدَاةً
إنْ تَكُوْنُوْا مَخَافَةً أو أمَانا
إنْ تَكُوْنُوْا حَقِيقةً أو مَجَازًا
إنْ تَكُوْنُوْا مَعَزَّةً أو هَوَانا
إنْ تَكُوْنُوْا خُرافةً أو حُضُورًا
فلْتَكُوْنُوْا؛ فشأنُكُم ما عَنانا
إنْ تَكُوْنُوْا من أهلِ مَكَّةَ جئْتُمْ
أو تَركْتُمْ في شِعْبِهَا بُنْيَانا
إنْ تَكُوْنُوْا من قّيْصَرٍ أوْ قُصَيٍّ
إنْ وَرِثْتُمْ – دونَ الوَرَى – سَاسَانا
لَنْ تَكُوْنُوا على اليمانِيْنَ قِسًّا
أوْ وَصِيًّا أوْ سُلْطةً أوْ لِسَانا
كُلُّ ما تدَّعُونَ يُنْبئُ إنَّا
مِنْ نَدَى أرضِنا وأنتم سِوَانا
كُل ما تُثْبتونَ يُثْبِتُ إنَّا
أَصلُ أَصلٍ والطارئُونَ عَدَانا
إنَّنَا مَغْرَسٌ تلِيْدٌ وأنتُمْ
نَبْتَةٌ مُسْتجَدَّةٌ في حِمَانا
إنَّنَا هَا هُنا وُجُوْدٌ وَجُودٌ
بَلْ خُلودٌ يُنادِدُ الأزمَانا
إنَّنَا مُسْنَدٌ ونَقْشٌ وعَرْشٌ
إنَّنَا سُورةٌ تَقُصُّ البَيَانا
حِيْنَ كُنْتُمْ على الضلالةِ كُنَّا
قد مَلَأْنا فَضاءَهَا إِيْمَانا
لا نُبَالِيْ بأصْلِكُمْ، وسَواءٌ
أَصَدَقْتُمْ أمْ جِئْتُمُ بُهْتانا
أنتُمُ بَعْضُ مَن أَتَى ذاتَ يَوْمٍ
وَقَبِلْنا وُجُودَكُمْ إِحسَانا
جِذْرُنا ثابِتٌ وأنتُمْ غُبَارٌ
ألقتِ الريْحُ طَيشَهُ في ضُحَانا
إنَّنا يَمَنٌ وأنْتُمْ لُصُوصٌ
تَسْتَبِيْحُونَ ضَوءَنا ودُجَانا
نحنُ ابناءُ تُبَّعٍ فاقرَأُوُنَا
-إن جَهِلْتُمْ مَقامَنا- قُرْآنا
نحن سُلطانُ أرضِنا وبَنُوها
لا نُوَالي من العِدَا سُلطانا
وسنجْتَثُّ كُلَّ زيفٍ تَمَادَى
فِكْرَةً أو عِصَابَةً أو كَيَانا