مخاطر الانخراط: ماذا بعد تشكيل القوة البحرية الجديدة في البحر الأحمر؟

مخاطر الانخراط: ماذا بعد تشكيل القوة البحرية الجديدة في البحر الأحمر؟

 

رغم اتساع نطاق الهجمات التي شنها الحوثيون ضد السفن الإسرائيلية أو السفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، إلا أن رد الفعل الدولي، ولا سيما الأمريكي، ما زال محدوداً ولا يرقى إلى مستوى ردع المليشيا عن مواصلة هذه الهجمات، حتى بعد الإعلان، في 19 ديسمبر الجاري، عن تشكيل قوة بحرية جديدة تضم عشرة دول تحت اسم “حارس الازدهار”. 
وفي الواقع، فإن الإجراءات المحدودة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن وجّهت رسائل إلى المليشيا الحوثية ربما فهمتها على نحو دفعها إلى الإمعان في تبني السياسة التصعيدية ذاتها بل ورفع مستوى التهديدات ضد إسرائيل والسفن المتجهة إليها.
ويمكن القول إن هذه الهجمات المستمرة كانت أحد الأسباب التي دفعت وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن إلى القيام بجولة جديدة في المنطقة تشمل البحرين وقطر وإسرائيل، بداية من 18 ديسمبر الجاري، حيث تعكف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حالياً على دراسة الخيارات التي يمكن الاستناد إليها في مواجهة هذه الهجمات التي دفعت بعض شركات الشحن إلى تجنب المرور عبر مضيق باب المندب واللجوء إلى طريق رأس الرجاء الصالح رغم الكُلفة العالية التي سوف تنجم عن ذلك.
أسباب عديدة
يمكن تصنيف الموقف الأمريكي ضد الهجمات الحوثية بأنه ما زال في إطار رد الفعل. إذ تمنح الولايات المتحدة الأمريكية حالياً الأولوية لصد الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية سواء بواسطة الطائرات من دون طيار أو بواسطة الصواريخ الباليستية. وقد أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، في 16 ديسمبر الجاري، أن مدمرة أمريكية مزودة بصواريخ موجهة أسقطت 14 مسيرة أطلقتها المليشيا الحوثية في البحر الأحمر(1). وسبق أن اعترضت القوات الأمريكية هجمات شنتها المليشيا سواء في البحر الأحمر أو باتجاه ميناء إيلات الإسرائيلي.
كما أن طبيعة المهمة التي ستقوم بها القوة البحرية الجديدة التي تم تشكيلها تحت اسم “حارس الازدهار” لم تتضح بعد، فهل ستنحصر في صد الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية، أم ستقوم بالرد على تلك الهجمات؟.
وهنا، يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة ما زالت تفرض على الولايات المتحدة الأمريكية ضبط حدود رد فعلها إزاء الهجمات المستمرة التي تشنها المليشيا الحوثية في البحر الأحمر، يتمثل أبرزها في:

  1. عدم توسيع نطاق الحرب: منذ بداية العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة للقضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس التي شنت عملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة في 7 أكتوبر الماضي، بدا أن الولايات المتحدة الأمريكية حرصت على منح الأولوية لحصر الحرب داخل القطاع وعدم توسيع نطاقها بحيث تشمل دولاً وأطرافاً أخرى، في إشارة إلى إيران والمليشيات الموالية لها في دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
    ومن هنا، أرسلت واشنطن حاملتى الطائرات “يو إس إس جيرالد فورد” و”يو إس إس أيزنهاور” إلى منطقة شرق المتوسط لردع هذه الدول والأطراف عن الانخراط في الحرب لدعم حركة حماس ورفع كُلفة العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل قطاع غزة.
    وقد كان لافتاً أنه رغم مرور نحو 75 يوماً على اندلاع الحرب في قطاع غزة، ما زالت إدارة الرئيس جو بايدن تضع هذا الهدف في مقدمة أولوياتها، على نحو بدا جلياً في الجولة التي يقوم بها وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن في المنطقة، بداية من 16 ديسمبر الجاري(2)، والتي سوف يحاول فيها ممارسة ضغوط على إسرائيل لوضع جدول زمني للعمليات العسكرية في قطاع غزة، على أساس أن وقف العمليات عند مدى معين وفي توقيت محدد سوف يكون كفيلاً باستبعاد خطر توسيع نطاق الحرب، الذي ما زال قائماً، وفقاً للرؤية الأمريكية، حتى الآن.
    هذا الهدف تحديداً هو الذي يدفع واشنطن حتى الآن إلى حصر ردود فعلها إزاء هجمات الحوثيين في صد تلك الهجمات ومنعها من الوصول إلى أهدافها، على أساس أن رفع مستوى التصعيد ضد المليشيا الحوثية ربما يكون كفيلاً بمواجهة المحظور الذي سعت واشنطن إلى تجنبه من البداية وهو توسيع نطاق الحرب. وربما من هنا يمكن تفسير تعمد الولايات المتحدة الأمريكية توجيه رسائل تفيد أنها ليست معنية بـ”أن تظهر وحيدة في مواجهة الحوثيين”(3).
  2. الحفاظ على التفاهمات مع إيران: رغم تعثر المفاوضات التي أجريت بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي في الفترة من أبريل 2021 وحتى أغسطس 2022، بسبب إصرار إيران على تبني شروط مسبقة قبل العودة إلى الالتزام بتعهداتها في الاتفاق، إلا أن إدارة الرئيس جو بايدن ما زالت حريصة على مواصلة فتح قنوات تواصل مع إيران، وذلك لتحقيق هدفين:
    أولهما، منع إيران من الوصول إلى المرحلة الحرجة التي تمتلك فيها القدرة على إنتاج القنبلة النووية، وهو خط أحمر لن تسمح به الإدارة الأمريكية حتى لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية على أعتاب الدخول إلى عام الانتخابات الرئاسية، بما يعني أن استمرار هذه التفاهمات كفيل، في رؤية واشنطن، بوضع حدود للتصعيد الإيراني في الملف النووي، ومن ثم إتاحة الفرصة مجدداً، وفي مرحلة لاحقة، لإجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى صفقة نووية بين الطرفين.
    وثانيهما، ممارسة ضغوط على إيران من أجل عدم توسيع نطاق الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل داخل قطاع غزة، باعتبار أن هذا الاحتمال سيكون كفيلاً بدخول الولايات المتحدة الأمريكية كطرف مباشر في تلك الحرب وليس فقط طرفاً داعماً لإسرائيل على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
    وقد بدا لافتاً أن هذا الهدف تلاقى بالفعل مع حسابات إيران التي حرصت من البداية على تأكيد عدم ضلوعها في عملية “طوفان الأقصى” ووجّهت من الرسائل العديدة ما يفيد بأنها فوجئت بهذه العملية بالفعل. بل إن إيران نفسها أوعزت إلى حزب الله بعدم خروج التصعيد العسكري مع إسرائيل في جنوب لبنان عن مستوى معين ربما يكون كفيلاً بانخراطه كطرف مباشر في تلك الحرب.وهنا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن أى خطوة تصعيدية جدية ضد المليشيا الحوثية، على غرار توجيه ضربات عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها المليشيا، أو إعادة وضع الأخيرة على قائمة التنظيمات الإرهابية- بعد أن كان رفع اسمها من أولى القرارات التي اتخذها الرئيس بايدن بعد وصوله إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021- يمكن أن يكون كفيلاً بعرقلة هذه التفاهمات المستمرة مع إيران وبالتالي إرباك حسابات واشنطن الإقليمية خلال المرحلة القادمة وفي السنة التي سوف تكون فيها الإدارة منشغلة بالانتخابات الرئاسية التي يسعى الرئيس بايدن إلى الفوز بها لتجديد ولايته لأربعة سنوات مقبلة.
    وقد كان لافتاً أن إيران بدورها وجّهت رسائل تحذيرية من عواقب تشكيل قوة دولية لحماية حرية الملاحة في مضيق باب المندب، بما يعني أنها ترى أن أى محاولة لتقليص قدرة المليشيا الحوثية على تهديد حركة الملاحة في تلك المنطقة تتناقض مع حساباتها ومصالحها في الوقت الحالي.
    ففي هذا السياق، قال وزير الدفاع الإيراني محمد رضا آشتياني، في 14 ديسمبر الجاري، أن “الولايات المتحدة الأمريكية سوف تواجه مشكلات استثنائية في البحر الأحمر في حالة ما إذا شكلت قوة دولية فيه”، مضيفاً: “المنطقة لم تعد لديها مساحة لأي شخص للتحرك أكثر وسيكون صراعاً قوياً. بالتأكيد لن يفعلوا مثل هذا الشيء، وإذا أرادوا أن يفعلوا مثل هذا الغباء، فسوف يواجهون مشاكل هائلة”(4).
  3. عدم وصول التهديد الحوثي إلى “الخط الأحمر”: لا يمكن استبعاد أن تكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية مقاربة مختلفة تقوم على أن التهديد الذي تفرضه الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية في البحر الأحمر لم يصل بعد إلى “الخط الأحمر”، الذي يتمثل في التأثير على حركة التجارة على المستوى الدولي، في ظل الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها هذه المنطقة.
    إذ تعبر من تلك المنطقة 13% من حركة التجارة العالمية. وتشير بعض التقديرات إلى أن 7.8 مليون برميل نفط ووقود مرت من هذه المنطقة يومياً على مدى الأشهر الإحدى عشر الماضية في عام 2023(5). ويعني ذلك أن أى تهديد جدي لحركة التجارة في هذه المنطقة سوف يفرض تداعيات سلبية على أسعار نقل السلع وتكاليف الشحن والتأمين، وربما يكون له تأثير على أسعار النفط.
    لكن اللافت في هذا السياق، هو أن الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية ما زالت تنحصر حتى الآن في استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل سواء كانت إسرائيلية أو تحمل علم دولة ثانية. ويعني ذلك أن الخسائر التي تنجم عن ذلك، وفقاً لتلك المقاربة، ربما ما زالت في حدها الأدنى، ولم تصل إلى المستوى الذي سوف يدفع واشنطن، وبعض القوى الإقليمية والدولية، إلى التدخل من أجل الحيلولة دون التأثير على حركة التجارة العالمية عبر هذه المنطقة. ويعني ذلك أنه حتى مع تشكيل القوة البحرية الجديدة، فإن مهمتها قد لا تختلف كثيراً عن تلك التي تتولاها القطع البحرية الأمريكية نفسها والتي تتمثل في صد الهجمات الحوثية.

متغيران رئيسيان
على ضوء ذلك، يبقى القول بأن المستوى الذي يمكن أن يصل إليه رد الفعل الدولي، لا سيما الأمريكي، إزاء الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية في البحر الأحمر سوف يعتمد على عاملين رئيسيين: أولهما، المدى الذي سوف تصل إليه هذه الهجمات في المرحلة القادمة، خاصة بعد أن هدد الحوثيون بإمكانية إغراق السفن المتجهة إلى إسرائيل ما لم يتم إيقاف العمليات العسكرية التي تشنها داخل قطاع غزة، وبعد أن ردوا على الإعلان عن تشكيل القوة البحرية الجديدة بتأكيد إصرارهم على مواصلة السياسة نفسها.
وثانيهما، الوقت الذي سوف تستغرقه تلك العمليات العسكرية الإسرائيلية بالفعل في المرحلة القادمة. إذ لا تبدي إسرائيل من المؤشرات ما يفيد بأنها قريبة من إنهاء تلك العمليات والوصول إلى وقف لإطلاق النار. وحتى في ظل الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها حكومة بنيامين نتنياهو من أجل تحديد سقف زمني لتلك العمليات، فضلاً عن التقارير التي تشير إلى إمكانية إبرام صفقة جديدة مع حركة حماس، فإن الضغوط المقابلة التي تتعرض لها الحكومة الإسرائيلية في الداخل فضلاً عن إصرارها على استكمال عملية القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس، أو على الأقل تصفية الصف الأول من قياداتها، تفرض، حتى الآن، حالة من الغموض على الموقف الذي سوف تتبناه إسرائيل في النهاية، ومن ثم يبقى التصعيد عنواناً رئيسياً في كل المناطق التي تتواجد بها مليشيات موالية لإيران.


1    مدمرة أمريكية تسقط 14 طائرة مسيّرة أطلقها الحوثيون في البحر الأحمر، صحيفة الشرق الأوسط، 16/12/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/gyjQ2at
2    أوستن يزور المنطقة.. هل يقنع إسرائيل بوقف الحرب البرية؟، سكاى نيوز عربية، 18/12/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/4iPLf7h
3    واشنطن تريد تحالفاً في مواجهة الحوثي.. وفصل اليمن عن الصراع، موقع العربية نت، 12/12/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/TSETwTO
4    طهران تتوعد واشنطن بـ “مشكلات استثنائية” في البحر الأحمر، صحيفة الجريدة الكويتية، 15/12/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/TNqsxT0
5    أحمد الغدار، حقائق-شريان باب المندب الملاحي الحيوي يصبح هدفاً وسط تداعيات حرب إسرائيل وحماس، سويس انفو، 18/12/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/lv2RfKl